فصل: فصل: القسم الأول: مَن قَبِل الهدى باطنا وظاهرا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.كلام نفيس لابن القيم في الآيات السابقة:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث، فإن الهدي يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب. مما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها؛ وقيل لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان، وقال في صفتهم {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} لأنهم قد رأوا في ضوء النهار وأبصروا الهدى، فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} ولم يقل ذهب نورهم، وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين وإن الله مع الصابرين وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم. فليس لهم نصيب من قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ولا من {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
وتأمل قوله تعالى: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ولو اتصل ضوئها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بنارهم ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور؛ وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية. وتأمل كيف قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع قوله: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} لأن الضوء هو زيادة في النور فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم وإنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم وأيضا فإن الله تعالى سمى كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا وهداه نورا ومن أسمائه النور والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله، وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبدلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها من تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها.
وتأمل كيف قال الله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} فوحده ثم قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} فجمعها فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} فجمع سبل الباطل ووحد سبيل الحق ولا يناقض هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا مستقيما وقال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقد قيل إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} ويكون قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مطابقا لقوله تعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي، وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادا بالآية نظر، فإن السياق إنما قصد لغيره ويأباه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر. قال الحسن رحمه الله: هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ولهذا قال: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه، وقال تعالى في حق الكفار {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فسلب العقل عن الكفار إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

.فصل: المثل المائي في الآيات:

ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا فقال تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها لا يهتدي سبيلا ولا يعرف طريقا؛ وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب، وأن تلك الظلمات التي فيه وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام. وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب.
وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته، فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون. وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه، وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه؛ والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري: لقائل أن يقول شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيب الكفرة من الإقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى أو كمثل ذوي صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. قال والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: إن المثلين جميعا من جهة التمثلات المتركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه. وهذا القول الفصل والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض لم تأخذ هذا بحجزة ذلك فتشبهها بنظائرها كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة؛ وتساوي الحالين عند من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يزيد فيه من الكد والتعب وكقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض وتصييرها شيئا واحدا فلا. كذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
قال فإن قلت أي المثلين أبلغ؟ قلت الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.
قلت: قال شيخنا: الناس في الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى هاهنا:

.فصل: القسم الأول: مَن قَبِل الهدى باطنا وظاهرا:

القسم الأول قبلوه باطنا وظاهرا، وهم نوعان:
أحدهما: أهل الفقه فيه والفهم والتعليم، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره وكنوزه، فهؤلاء مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم؛ وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم.
النوع الثاني: حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة فحفظوا عليهم النصوص، وليسوا من أهل الاستنباط والنفقة في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه، والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه، وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به.

.فصل: القسم الثاني: من رد الهدى ظاهرا وباطنا وكفر به:

القسم الثاني: من رده ظاهرا وباطنا وكفر به ولم يرفع به رأسا، وهؤلاء أيضا نوعان أحدهما: عرفه وتيقن صحته، وأنه حق ولكنه حمله الحسد والكبر وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه، ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم وهم الذين قال الله فيهم {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} وقال تعالى فيهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.
وقال تعالى فيهم {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَاد} وقال فيهم {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي سننتموه لنا وشرعتموه {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} فقولهم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار أي داخلوها كما دخلناها، ومقاسون عذابها كما نقاسيه، فأجابهم الأتباع وقالوا: بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.
وفي الضمير قولان: أحدهما أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم واستبدال غيره به، والمعنى أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا إليه وحسنتموه لنا؛ وقيل على هذا القول أنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين، والمعنى على هذا أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى؛ أي بدأتم به وتقدمتمونا إليه فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار، أي بئس المستقر والمنزل والقول الثاني: أن الضمير في قوله: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ضمير العذاب وصلي النار، والقولان متلازمان وهما حق.
وأما القائلون {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} فيجوز أن يكون الأتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم الذين حملوهم عليه ودعوهم إليه، ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفا وهم الشياطين.

.فصل: القسم الثالث الذين قبلوا الهدى ظاهرًا وجحدوه وكفروا به باطنًا:

القسم الثالث الذين قبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ظاهرا وجحدوه وكفروا به باطنا، وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب، وهم أيضا نوعان:
أحدهما: من أبصر ثم عمي، وعلم ثم جهل، وأقر ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وسادتهم وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد نارا ثم حصل بعدها على الظلمة.
والنوع الثاني ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته، وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، ولا يقربون من سماع القرآن والإيمان بل يهربون منه، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي، وإذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها، ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول: دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها، فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق، فإذا جاءت بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرا لا يدري أين يذهب ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها، ويقول مسكين الحال هم أخبر بها مني وأعرف.
فيالله العجب، أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال المقدمون لها على ما خالفها أعرف بها أيضا منك وممن اتبعته، فلم كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها، وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين، ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات، ويسميها الظواهر النقلية. ويسمى ما خالفها القواطع العقلية، فلم كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها، ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل أنهم يعادون الحق وأهله، وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته كالرافضة الذين عادوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل وأهل بيته، ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداته ومعاداة أهل بيته، وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون، والمقصود أن هؤلاء المنافقين قسمان: أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق، وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم. فأولئك زنادقة مستبصرون وهؤلاء زنادقة مقلدون، فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان، ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الإيمان كحال المستضعف بين الكفار الذي تبين له الإسلام ولم يمكنه المهاجرة بخلاف قومه، ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه. وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا وإما كافر ظاهرا وباطنا أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا، والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود، وقد بين القرآن أحكامها، فالأقسام الثلاثة الأول ظاهرة وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة. وأما القسم الرابع ففي قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ} فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ملك النصارى بالحبشة وكان في الباطن مؤمنا، وقد قيل إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} وقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فإن هؤلاء ليس المراد بهم التمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد صلى الله عليه وسلم قطعا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار، فلا يثنى عليهم بهذا الثناء، وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه، فإن هؤلاء لا يطلق عليهم أنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه، وذلك الاعتبار قد زال بالإسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين، وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب. هذا هو المعروف في القرآن كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ونظائره. ولهذا قال جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة أن قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} أنها نزلت في النجاشي، زاد الحسن وقتادة: وأصحابه.
وذكر ابن جرير في تفسيره من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اخرجوا فصلوا على أخيكم» فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات، فقال: «هذا النجاشي. أصحمة». فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية.
والمقصود أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله تعالى في كتابه وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة، وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرا وكفر باطنا، وأنهم نوعان رؤساؤهم وساداتهم وأتباعهم ومقلدوهم، وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يدل السياق عليه، وقد يقال وهو أولى أن المثلين لسائر النوع، وأنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الإنكار بعد الإقرار والحصول في الظلمات بعد النور، وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والإعراض عنه، فإن المنافقين فيهم هذا وهذا. وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول، وعلى فريق منهم المثل الثاني.